الآراء

من رماد الحرب إلى أفق الإنتاج: الطرح الصناعي بالتمليك بوابة إنقاذ الاقتصاد السوداني

محمد كمير

منذ اندلاع الحرب في أبريل 2023 نتيجة تمرّد مليشيا الدعم السريع على القوات المسلحة السودانية، تعرّض الاقتصاد السوداني إلى واحدة من أقسى الضربات في تاريخه الحديث. فقد تجاوزت الخسائر الاقتصادية 37% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2023، وتواصلت هذه الانهيارات خلال عام 2024، بعد أن كثّفت المليشيا هجماتها على البنية التحتية الحيوية للدولة، مستهدفة بالطائرات المسيّرة منشآت نفطية وغازية في ميناء ومطار بورتسودان، إلى جانب تدمير محطات الكهرباء التحويلية في مروي وعطبرة، ما أدّى إلى انقطاع شامل للتيار الكهربائي عن ولايات الشمال لأسابيع. وصف وزير الطاقة هذه الاعتداءات بأنها محاولة ممنهجة لشلّ الحياة الاقتصادية واستهداف الحاجات الأساسية للمواطنين، في إطار حرب اقتصادية معلنة ضد الدولة والشعب.

في خضم هذا الانهيار، وتحت وطأة الفقر المتصاعد والبطالة التي تجاوزت 40% بين الشباب، لا بد من الانتقال إلى مرحلة حلول عملية تستند إلى تمكين المواطن وتعويضه عن الأصول التي فقدها بسبب الحرب، لا عبر المساعدات أو الإعانات المؤقتة، بل من خلال طرح صناعي حقيقي يؤسس لبنية إنتاجية جديدة من القاعدة. ويتمثل هذا الطرح في إنشاء مناطق صناعية نموذجية آمنة، تبدأ بموقع يدرس جيدا ويتم اختياره بعناية من خبراء، حيث يُعاد تأهيل البنية التحتية من كهرباء ومياه، وتُقام فيها طرح صناعي يتكون من وحدات صناعية صغيرة ومتنوعة يتم تمليكها للمواطنين عبر الية تضمن العدالة في التوزيع واختيار المستحقين، وفق نظام تمويلي قائم على دفع مقدم مالي ثم سداد التكاليف على أقساط شهرية أو سنوية طويلة الأجل، على غرار مشاريع الإسكان. يُموَّل هذا المشروع من البنوك السودانية والمؤسسات الاقتصادية الوطنية الكبرى، وفي حال نجاح النموذج، يمكن مستقبلاً تمويل توسعه من عائدات الذهب. وتُبنى مدينة صناعية مماثلة في كل ولاية سودانية، لتكون نواةً للتنمية الشاملة والتعافي الإنتاجي.

الوحدات الصناعية التي يمكن إنشاؤها في هذا النموذج تشمل مصانع صغيرة للمياه المعدنية والثلج، ومعاصر زيوت نباتية، وآلات لمعالجة الفول السوداني والسمسم، ومصانع مكرونة وبسكويت، ومحطات تغليف للمنتجات الزراعية، وغيرها من خطوط الإنتاج التي تخدم السوق المحلي وتوفر احتياجاته الأساسية. هذه المشاريع تفتح فرص عمل مباشرة، وتساعد على دمج النازحين الحاليين والمقاتلين السابقين بعد نهاية الحرب  في دورة الاقتصاد المدني، مما يعزز من استقرار المجتمع ويمنع إعادة إنتاج العنف.

فكرة الطرح الصناعي بالتمليك لا تُعالج فقط مشكلة البطالة، بل تعيد بناء الطبقة المنتجة التي انهارت بفعل الحرب. فهي تمنح المواطنين وسيلة للعودة إلى الإنتاج وامتلاك أدوات عمل بشكل منظم، وتحقق شراكة فعلية بين المجتمع والدولة والقطاع الخاص. كما أنها تعالج جزءاً كبيراً من اقتصاد الظل، حيث أن أكثر من 60% من العمالة في السودان تعمل في القطاع غير الرسمي، ومعظم المنشآت صغيرة جداً ولا توفّر سوى الحد الأدنى من فرص العمل. إعادة تنشيط هذا القطاع من خلال تمليك وحدات صناعية حقيقية للمواطنين يمكن أن يغيّر المعادلة بالكامل.

الدروس الدولية تثبت جدوى هذا النموذج. رواندا بعد الحرب الأهلية بنت مراكز دمج وإنتاج استوعبت المقاتلين السابقين ووفّرت لهم مساكن وفرص تدريب ووظائف، مما ساعد في إعادة الاستقرار. بلدان مثل أفغانستان ووسط إفريقيا تبنّت برامج دعم المشروعات الصغيرة للعائدين من الحرب، وربطت إعادة الدمج بالإنتاج والعمل الحرفي. السودان يمكنه أن يسير في المسار ذاته، ويعتمد على ما لديه من موارد بشرية ومؤسسية لخلق بنية صناعية جديدة ترتكز على ملكية مدنية حقيقية.

بالتوازي مع هذا المشروع البنيوي، لا بد من اتخاذ إجراءات قصيرة المدى لدعم صمود الاقتصاد، مثل ضمان تدفق المساعدات الإنسانية، وتأمين السلع الأساسية، والسيطرة على التضخم من خلال إصلاح السياسات النقدية، وتكثيف النشاط الزراعي لزيادة إنتاج الغذاء. كما يمكن توفير قروض صغيرة للنازحين الراغبين في الاستثمار داخل المناطق الآمنة. وعلى المدى الطويل، يجب إعادة تأهيل البنية التحتية القومية من طرق وموانئ ومطارات، وإصلاح الجهاز الإداري والمالي، وتسوية الديون الخارجية، ووضع خارطة طريق سياسية تعيد الثقة للمستثمرين وتفتح الباب أمام تمويل إعادة الإعمار.

الطريق أمام السودان شاق، لكنه ليس مستحيلاً. من خلال تحويل الأزمة إلى فرصة، وطرح رؤية صناعية إنتاجية واقعية تُبنى على تملك المواطنين لأدوات ووسائل، يمكن إعادة تشكيل الاقتصاد الوطني من جديد. فليس المهم فقط وقف الحرب، بل الأهم أن نربح السلام بالإنتاج، وأن يكون لكل مواطن سهم في بناء وطنه عبر مصانع يملكها ويشغّلها، لا بالانتظار ولا بالاعتماد على الخارج. بذلك فقط، يمكن للاقتصاد السوداني أن ينهض من تحت الرماد، نحو أفق إنتاج وعدالة واستقرار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى